سورة التين - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التين)


        


{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ} هذا جواب القسم، وأراد بالإنسان: الكافر. قيل: هو الوليد بن المغيرة.
وقيل: كلدة بن أسيد. فعلى هذا نزلت في منكري البعث.
وقيل: المراد بالإنسان آدم وذريته. فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وهو اعتداله واستواء شبابه، كذا قال عامة المفسرين. وهو أحسن ما يكون، لأنه خلق كل شيء منكبا عل وجهه، وخلقه هو مستويا، وله لسان ذلق، وئد وأصابع يقبض بها.
وقال أبو بكر بن طاهر: مزينا بالعقل، مؤديا للأمر، مهديا بالتمييز، مديد القامة، يتناول مأكوله بيده. ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه حيا عالما، قادرا مريدا متكلما، سميعا بصيرا، مدبرا حكيما. وهذه صفات الرب سبحانه، وعنها عبر بعض العلماء، ووقع البيان بقوله: «إن الله خلق آدم على صورته» يعني على صفاته التي قدمنا ذكرها.
وفي رواية: «على صورة الرحمن» ومن أين تكون للرحمن صورة متشخصة، فلم يبق إلا أن تكون معاني. وقد أخبرنا المبارك بن عبد الجبار الأزدي قال: أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن أبي علي القاضي المحسن عن أبيه قال: كان عيسى بن موسى الهاشمي يحب زوجته حبا شديدا فقال لها يوما: أنت طالق ثلاثا إن لم تكوني أحسن من القمر، فنهضت واحتجبت عنه، وقالت: طلقتني!. وبات بليلة عظيمة، فلما أصبح غدا إلى دار المنصور، فأخبره الخبر، وأظهر للمنصور جزعا عظيما، فاستحضر الفقهاء واستفتاهم. فقال جميع من حضر: قد طلقت، إلا رجلا واحدا من أصحاب أبي حنيفة، فإنه كان ساكتا. فقال له المنصور: ما لك لا تتكلم؟ فقال له الرجل: بسم الله الرحمن الرحيم: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ. لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. يا أمير المؤمنين، فالإنسان أحسن الأشياء، ولا شيء أحسن منه. فقال المنصور لعيسى ابن موسى: الامر كما قال الرجل، فأقبل على زوجتك. وأرسل أبو جعفر المنصور إلى زوجة الرجل: أن أطيعي زوجك ولا تعصيه، فما طلقك. فهذا يدلك على أن الإنسان أحسن خلق الله باطنا وظاهرا، جمال هيئة، وبديع تركيب الرأس بما فيه، والصدر بما جمعه، والبطن بما حواه، والفرج وما طواه، واليدان وما بطشتاه، والرجلان وما احتملتاه. ولذلك قالت الفلاسفة: إنه العالم الأصغر، إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه.
الثانية: قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ} أي إلى أرذل العمر، وهو الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القوة، حتى يصير كالصبي في الحال الأول، قاله الضحاك والكلبي وغيرهما.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إلى النار، يعني الكافر، وقال أبو العالية.
وقيل: لما وصفه الله بتلك الصفات الجليلة التي ركب الإنسان عليها، طغى وعلا، حتى قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى} [النازعات: 24] وحين علم الله هذا من عبده، وقضاؤه صادر من عنده، رده أسفل سافلين، بأن جعله مملوءا قذرا، مشحونا نجاسة، وأخرجها على ظاهره إخراجا منكرا، على وجه الاختيار تارة، وعلى وجه الغلبة أخرى، حتى، إذا شاهد ذلك من أمره، رجع إلى قدره. وقرأ عبد الله أسفل السافلين. وقال، أَسْفَلَ سافِلِينَ على الجمع، لان الإنسان في معنى جمع، ولو قال: أسفل سافل جاز، لان لفظ الإنسان واحد. وتقول: هذا أفضل قائم. ولا تقول أفضل قائمين، لأنك تضمر لواحد، فإن كان الواحد غير مضمر له، رجع اسمه بالتوحيد والجمع، كقوله تعالى: {وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33]. وقوله تعالى: {وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [الشورى: 48]. وقد قيل: إن معنى {رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ} أي رددناه إلي الضلال، كما قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} أي إلا هؤلاء، فلا يردون إلى ذلك. والاستثناء على قول من قال أَسْفَلَ سافِلِينَ النار، متصل. ومن قال: إنه الهرم فهو منقطع.


{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)}
قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} فإنه تكتب لهم حسناتهم، وتمحى عنهم سيئاتهم، قاله ابن عباس. قال: وهم الذين أدركهم الكبر لا يؤاخذون بما عملوه في كبرهم.
وروى الضحاك عنه قال: إذا كان العبد في شبابه كثير الصلاة كثير الصيام والصدقة، ثم ضعف عما كان يعمل في شبابه، أجرى الله عز وجل له ما كان يعمل في شبابه.
وفي حديث قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا سافر العبد أو مرض كتب الله له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا».
وقيل: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنه لا يخرف ولا يهرم، ولا يذهب عقل من كان عالما عاملا به. وعن عاصم الأحول عن عكرمة قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر. وروي عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «طوبى لمن طال عمره وحسن عمله». وروي: إن العبد المؤمن إذا مات أمر الله ملكيه أن يتعبدا على قبره إلى يوم القيامة، ويكتب له ذلك. قوله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} قال الضحاك: أجر بغير عمل. وقيل مقطوع.


{فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)}
قيل: الخطاب للكافر، توبيخا وإلزاما للحجة. أي إذا عرفت أيها الإنسان أن الله خلقك في أحسن تقويم، وأنه يردك إلى أرذل العمر، وينقلك من حال إلى حال، فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء، وقد أخبرك محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به؟ وقيل: الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي استيقن مع ما جاءك من الله عز وجل، أنه أحكم الحاكمين. روي معناه عن قتادة.
وقال قتادة أيضا والفراء: المعنى فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذا البيان بالدين. واختاره الطبري. كأنه قال: فمن يقدر على ذلك، أي على تكذيبك بالثواب والعقاب، بعد ما ظهر من قدرتنا على خلق الإنسان والدين والجزاء. قال الشاعر:
دنا تميما كما كانت أوائلنا *** دانت أوائلهم في سالف الزمن

1 | 2 | 3